2021/05/27 | 0 | 4350
ابن رشد في ميزان ناصيف نصّار
لا يُخفي ناصيف نصّار1 بُرْمه بالعدمية في النظر الى تراث العقل حين يكتب: "لا شيء يمنع من أن يشعر أيٌ فيلسوف بإعجابٍ بأحد أسلافه"، لأنه شعور متصل بفكرة التراكم والاستمرارية التاريخية التي لا غناءَ لأي ثقافة عنها. ولكن "أن يتحول شعور الأعجاب، بهذا أو ذاك من الفلاسفة، إلى نوعٍ من التبجيل أو التكريم الديني، فإن الأمر يتيح لنا أن نتساءل عندئذ حول ما إذا كانت دوافع الإعجاب من طينةٍ فلسفيةٍ محضة". لا يصبح للأعجاب في مثل هذه الحال محل من الاعراب معرفياً، ويغدوا على وجه أرجح فعلاً من أفعال الأسطرة والاختلاق اللذين لا وظيفة لهما سوى الادّعاء الأجوف والتعويض عن النقص وهُمَا معاً يتكاملان فيما يفضيان إليه. لذلك ينتدب نصّار نفسه ليتصدى لما نَعَتَه "الأسطورة" حول ابن رشد والتي نسجها معجبون به كثر من عرب ومن غير العرب محاولاً ان يتوسَل في ذلك حسه النقدي والتاريخي وهو من أمْضَى أسلحة التفكير الفلسفي.
يعترف نصّار بأن مقصدهُ ليس إبطال التأويلات التبجيلية لفكر ابن رشد، وإنما إلى "التنبيه على حدودها" كفـًّا للإسقاطات والمبالغات داعياً إلى نظرة نقدية أخرى لفكر ابن رشد هي الاجدر - عنده - بإنصافه. والمدخل إلى ذلك هو إعادة بناء السؤال عن ابن رشد المتّصل - اتصالَ ازدوجٍ - بالفلسفة والدين: هل كان مفكّراً دينياً تعاطى الفلسفة والتمس لها حق التوطن، أم كان فيلسوفاً عاش في مجتمع يهيمن فيه الدين، فبحث للفلسفة عن شرعيةٍ في ذلك المجتمع من طريق تعايشها مع الدين؟ إذِ السؤال هذا يفتح الطريق أمام مقاربة نقدية تكشف ما قد يكون انطوى عليه فكرَهُ من التباسٍ، أو ما وَقَع فيه قراؤُهُ من التباس!
يبدو أن نصّار غير ميال إلى حسبان ابن رشد فيلسوفاً بالأصالة، أو من حيث الأصل، وإن لم يصرح بذلك جهرة، أو لنقل - للدقة - أنه تأبّى حسبانه فيلسوفاً ملتزماً معنى الفلسفة بما هي "ممارسة حرة للعقل في بحثه عن الحقيقة والسعادة". وليس معنى ذلك أنه أخرجه من زمرة الفلاسفة جملة، وإنما يعني أنه نظر إلى موقعه الفلسفي نظرةً لم تكن بعيدة تماماً عن الاستصغار! فابن رشد عنده ليس أكثر من فيلسوف باحث عن مصالحةٍ بين العقل والوحي. والمصالحة تلك اقتضته ان يلتمس للفلسفة شرعية في مجتمع وثقافةٍ يُناهضانها، ومع أن ابن رشد حسب قراءة نصار "دفع بالتوفيق بين العقل الفلسفي والوحي النبوي إلى أقصى حدٍّ يمكن أن يبلغه التوفيق الجامع المتوازن بينهما "إلا أنه" لم ينجح النجاح الذي يعترف له به الفلاسفة الميتافيزيقيون أو المفكرون الدينيون على السواء، إلا بواسطة تسوية كبيرة، كان الخاسر فيها هو بالضبط العقل العملي "أي بمعنى كان العقل العملي ضحية تلك التسوية".
يُلح نصّار كثيراً على مفهوم العقل العملي في مقابل العقل النظري، من باب تشديده على اتصال الفلسفة بالإنسان والوجود الاجتماعي لا بالسؤال الميتافيزيقي على وجه الحصر. وفي هذا لا يتميز ابن رشد - في رأي نصّار - بشيءٍ يدعو إلى كل ذلك الانبهار به، لأنه يعرّف فعل التفلسف بأنه نظر في المصنوعات (الموجودات) لا بما هي كذلك أي موجودات، ولكن "من جهة دلالتها على الصانع" كما يقول ابن رشد. إن سؤاله الفلسفي الرئيس، إذاً، ليس الوجود الطبيعي والاجتماعي، ليس الإنسان، وإنما الصانع. أي أنه بعبارة أخرى سؤالَ الميتافيزيقيين، وهذا سؤال العقل النظري بامتياز. وإذا كان العقل عند ابن رشد لا يمتد إلى مجال العمل - في نظر نصّار - فإن دليله على ذلك أن تأويله للشريعة توقّف عند حدود بيان توافقها مع العقل في المشترك الجامع الذي هو الحق، ولم يتعدَّ ذلك تأويل الجانب العملي في الشريعة (الأخلاق والمعاملات)، بما هو مجال حكر للشريعة لا للعقل عند ابن رشد. ويُستفاد من ذلك أن ابن رشد ما سعى - كما يقول دارسوه - إلى شرعنة الفلسفة في مجتمع الدين، ولا إلى شرعنة فلسفةٍ متمحورة حول الإنسان في الكون، وإنما دافع عن "مفهوم خاص للفلسفة، أو مفهوم لفلسفة خاصة، هي فلسفة الصانع الميتافيزيقية".
يترتب على هذه القراءة لنمط العلاقة التي يقيمها ابن رشد بين الفلسفة والشريعة، التسليم بأن شرعية الفلسفة عنده إنما مأتاها من الشرع، وإنها لذلك السبب "لا حقّ لها في التوسع والتدخل في الميادين العائدة للشرع حصراً" والموقف الرشدي في هذا الحجز الذي يفرضه على الفلسفة - في نظر نصّار - لا يختلف عن مواقف سابقيه، خاصة الغزالي الذي حشرها في إطار محدد - لمحاكمتها طبعاً - هو إطار الفلسفة الطبيعية والميتافيزيقية.
إنّ حقها في الوجود الذي انتزعه لها ابن رشد حقّ مشروع من وجهة دينية، لكنه لا يعدو عن السؤال الميتافيزيقي عن الصانع، ولا يخرج عن نطاق مفهوم الشرع له. وهو يقترن في الوقت عينه مع الاعتراف (الرشدي) بأن العقل البشري عاجز أمام ثلاث حقائق يقرّرها الشرع ولا سبيل له (أي العقل) إلا التسليم بها، وهي: وجود الله، والعالم الآخر، والمعجزات؛ فهذه مبادئ "موضوعة خارج الشك والنقاش الفلسفي". وهكذا فالحرية التي سعى ابن رشد في تمتيع الفلسفة بها مما لا يمكن أن تُمارس "إلا داخل النطاق الذي يرسم الشرع أسواره بصرامة"، أي حرية مكبوحة أو مقيدة بقيود الدين.
إذا كان ابن رشد "لا يبدي في أي لحظة من استدلالاته، استعداداً لوضع مملكة العمل الحق تحت سيادة الفلسفة"، فإنه يتخذ تبعاً لذلك "موقفاً شديد التضييق على الفلسفة العملية"، لأنه يحسب مجال الاعمال والافعال من أملاك الشريعة التي لا ينبغي التطاول عليها. لذلك فإنه لا يبدي بالقدر نفسه - ودائماً انطلاقاً من تأويل نصّار - استعداداً لتوسعة نطاق التفكير الفلسفي النظري بحيث يجاوز حدود الحقائق الدينية، ويعيد طرحها أمام النظر العقلي: يستصوبها، ويستدل عليها، أو يرفضها. وهكذا لا يصبح ابن رشد مقصّراً في الفلسفة العملية حصراً وإنما يكون مقصراً بالدرجة عينها في الفلسفة النظرية (أي الميتافيزيقية)!
يتأدى نصّار من هذا كله إلى القول - جواباً عن سؤال عن الصلة بين الفلسفي والديني في فكر ابن رشد طَرَحَه منذ البداية - أن هدف ابن رشد الاساس ليس وضع فلسفة عقلانية في التشريع أو السعي في ذلك، وإنما "إظهار شرعية الوحي النبوي وأفضليته ووجوده فعلاً، وتفوق الشريعة على سائر الشرائع". والمستفاد من ذلك أنه ما سخّر الدين للفلسفة، وإنما سخر الفلسفة للدين، فكان تفكيره - بهذا الحسبان - تفكيراً تبريرياً، ولم يقل نصّار، صراحةً، إن فلسفة ابن رشد فلسفة دينية، لكن طريقة مقاربته لها تجعله أشبه ما تكون فلسفة القديس أوغسطين أو توما الأكويني! وهذا ما جعل منها مجرد تأويل للشرع، وما أفقرها - في الوقت عينه - كفلسفة.
ينشغل نصّار بالسؤال المألوف لدى دارسي ابن رشد، وربما لدى دارسي التراث عموماً، هو سؤال رهينة فكره، ومدى جواز حُسبانه فكراً راهناً، وما عساه أن يسعفنا به هذا الفكر. وهو سؤال لا يطرحه نصّار على منظومة مفاهيم ابن رشد، وإنما على نهجه الفكري ومفهومه للفلسفة، ذلك أن الراهنية لفكر فيلسوف ما إنما - عند نصّار - "متعلقة بالأسئلة التي يثيرها، والهم العميق الذي يحركه، والمنهج الذي يطبقه". وابن رشد بهذا الحسبان "كان...راهنياً جداً في القرون الوسطى اللاتينية"، لأن فكره زوّد أوروبا بمادة معرفية دسمه للجواب عن مشكلات بين العقل والنصوص المقدسة، ولكن هل هو كذلك بالنسبة إلى فكرنا وعصرنا اليوم؟
1ناصيف نصّار هو فيلسوف حقيقي لكونه أصر وبعَناء كبير على تجديد القول الفلسفي على مستوى الإشكالية واللغة والمنهج، كما يقول محمد المصباحي أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة محمد الخامس.
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد